سليق
لا نأكل الطعام، ونحبه طمعاً في المذاق فقط، بل لنعيد الذكريات مع كل ملعقة، حتى تكتمل تلك الذكرى التي نحبها. وبالطبع هناك الملعقة التي تكون مثل الغصة تفتح باب الذكريات عنوةً، وتدفعك لتذكر ما لا تريد. ولكن على كل حال هنالك لذة لذلك الحنين إلى فترة ولحظة لن تعود مجددا، فكم أتمنى أنّ أعيد تلك الأيام التي انتظر فيها جدتي وهي تُعد السليق بكل حب، وأساعدها على تجهيز المائدة. تناول السليق مع جدتي كان دائماً درس في الحياة أكثر من مجرد تجمعنا على مائدة الطعام. وسوف أخبركم لماذا بعد قليل.
الذكريات ليست شريطاً يعاد مشاهدته بل هو تشكيل لذاتك، والأشياء التي تتذكرها تخبرنا عن شخصيتك وروحك. أتذكر حواراً من فلم Begin Again يزعم فيه البطل أنه يستطيع فهم إنسان من قائمة الأغاني الخاصة به وأنا أقول إنه يمكنك فهم إنسان بالذكريات التي يُقّدرها وتشغل باله على الدوام. ولحسن الحظ هناك نظريات كثيرة درست هذه الفكرة.
على سبيل المثال، يزعم «كوناوي» إن ذاكرة الإنسان مقسمة إلى: فترات الحياة العامة (فترة دراسة جامعية)، الأحداث العامة (أكثر دقة، وتشير إلى الروتين مثل الاسبوع الصيفي في مخيم ما)، والذكريات المرتبطة بحدث محدد وهي أكثر تفصيلاً ودقة مثل يوم التخرج. الذكريات المرتبطة بحدث محدد هي أكثر قوة من الأنواع الأخرى، ونصل إليها مباشرة، ولا تُنسى لأنها دائما حاضرة في عقلنا لذلك هي تشكل من نكون وأيضاً من خلال تذكرها المستمر تساعدنا على تذكر تفاصيل أكثر من ذكريات فترات الحياة وكذلك الأحداث العامة.
بمعنى آخر، نحن نختار تقدير هذه الذكرى عن باق الذكريات الأخرى، لذلك هناك ذكريات كثيرة ترقد تحت المظلات الكبيرة (فترات الحياة والأحداث العامة) لا نتذكرها إلا عند حدوث حافز معين.
يبقى السؤال لماذا نفرق بين الذكريات داخلنا؟
في الغالب هو شيء يعود إلى العاطفة ومشاعرنا اتجاه موقفِ ما، ولكن اعتقد السبب الأكبر هو المعنى الذي نعطيه هذه الذكريات. تلك الذكريات مع جدتي ونحن نتناول السليق أنا في الغالب أتذكرها؛ لأنها أسلوب حياة أعيش به اليوم. أتذكر في بعض الأحيان كنت أتذمر على جدتي؛ لأنها تعيد طبخ السليق دوماً دون إضافات جديدة وأحيانا دون دجاجة
وأتذكر جيداً قولها بأنّ الإنسان سيجلب المعاناة لنفسه إذا استمر في الانتقاء المفرط لكل صغيره وكبيره وكأنه سيموت إذ لم يكن في الأكل البهارات التي يحبها، أو عندما لا يسافر إلى مكان جديد. فهي ترى أنّه لطالما يوجد شيء يملأ البطن ويكسو البدن فنحن في قمة السعادة، و أفضل ما يُقدمه الإنسان لنفسه هو القناعة. وسبحان الله ما زلت أتذكر كلامها بكل تفاصيله عندما افرط في انتقاء الاشياء.
وأتساءل في كثير من الأحيان، أي فترة من حياتها تتذكرها جدتي جيداً مع المعاناة من الزهايمر؟ أتمنى أن تكون فترة سعيدة، أتمنى أن تكون من تلك الفترات تلك الذكرى التي أدخل فيها بيتها ورائحة السليق تملىء المكان، وهي جالسة تحضر المائدة، وتلح علي بالجلوس للغداء، فأنسى أن أعود إلى أمي باللمح الذي طلبته من جدتي... أما انتم ماهي الذكريات المصاحبة لكم دوماً؟
تعليقات
إرسال تعليق