كيف لازم نعيش؟



أفلام ميازاكي لا تمر بالحالة المعتادة في الكتابة. فمثلا، ميازاكي يقوم برسم المشاهد أو الستوري بورد من الناحية الجمالية من دون اعتبار سياق القصة، فيصبح على ميازاكي ومن يعمل معه أنّ يخلق القصة من الرسمة وليس العكس. وهذا شيء ملاحظ بأفلامه فبعض المشاهد لا يوجد بينها ترابط وتتابع بين الاحداث. ولكن فلم The boy and the heron  لا يتبع هذا الأسلوب. واعتقد لهذا السبب المشاهد شعر بالإحباط أكثر مع نهاية الفلم، لأنّ الفلم يشعرك ببناء واضح وتناسق في الاحداث لشيء معين ولكن هذا البناء يبدأ في السقوط وتشعر بأن الاحدث سريعة وبعض الأفكار تُهمل مثل المتعلقة بـLore. مع ذلك أعتقد أنّ الفلم يحمل ثيمات رائعة تستحق الحديث عنها، ولو على عجل، وتقدير الفلم من أجلها حتى مع عيوب الفلم. 

حرق للفلم 


النزعة للموت أم للحياة؟ 



بداية الفلم كئيبة وحتى الألوان المستخدمة تميل لبث نوع من الحزن والبؤس كعاكس لمشاعر بطل الفلم. يرفض "ماهيتو" تخطي ما حدث له، فيفرض على نفسه التعاسة والحزن فيعامل الكل ببرود تنقلها تصرفاته ومشاعره. تتطور هذه الحالة لتصبح نزعة للموت أو على الأقل إيذاء النفس. مثل أنّ يُحدث جرح في رأسه بالحجر أو الفضول نحو الطائر الذي كان من الواضح له أنّه يفوقه قوة، وكذلك فضوله نحو البرج الذي حُذر منه أكثر من مره، وكلها أمور خطرة قد تُلحق به ضرر ما. يتحدث سيغمود فرويد عن هذه الحالة ويسميها Thanatos وهي النزعة للموت ونقيضها الـ eros النزعة للحياة والرغبة في العيش. والفلم هو هذا التحول من النزعة للموت إلى النزعة للحياة. 

الرغبة في الموت "لموهيتو" هي بسبب عندم قدرته على التحكم بالبيئة والعالم من حوله؛ الهاجس الكبير في الفلم هو التحكم في البيئة. فمثلا، موهيتو يشعر بالهزيمة واليأس لأنه لا يقدر على التحكم بالطائر وهزيمته ولكن عندما يحصل على ريشة الطائر المرقمة بالرقم سبعة تتغير شخصية موهيتو وتصبح لديه شيء من النشوة في التحكم بل حتى يصبح قادر على اكتشاف غموض البرج بسبب تحكمه بالطائر. عندما يذهب موهيتو للعوالم الآخرى يصبح مذهولا بمدى تحكم وتمكن الشخصيات من البيئة التي يعيشون فيها، مثل "كيركو" قادرة على الصيد ومساندة المخلوقات الصغيرة ولا تبدو متأثرة بالعالم الكئيب من حولها. وبنفس الطريقة "هيمي" تتحكم بالنار وتتصدى للطيور الجائعة. حقيقة تحكمها بالنار تذكرني أيضًا بحديث فرويد عن اكتشاف الانسان للنار. 

يرى فرويد أنّ تحكم الإنسان بالنار هو أول علامة علي أهمية التحكم والموازنة في حياة الإنسان. أن يكون الإنسان قادرا على الحفاظ والكبت على النار وكذلك إطفاءها واشعالها مره أخرى تحت حكم الـEgo الذي يوازن بين شهوات الإنسان والاخلاقيات. في هذا السياق، كيركو فشلت في تحقيق هذا التوازن عندما قادت ماهيتو إلى غرفة الولادة ومجرم فعل ذلك من قبل الحجر السحري الذي أعطاها قوة النار في الأساس. 

اعتقد أنّ العالم السحري هو رمزية لعقل الإنسان، لأننا دائما نبدع في تخيل أزمنة أخرى قد نعيش بها، مثل ماذا لو حصلت على الوظيفة كذا أو ولدت في الدولة كذا. هذا التخيل يجعلنا نتمنى تلك العوالم ونرى أنها أفضل من العالم الذي نعيش فيه وبهذه الطريقة تشعر بالقلق أو الجزع من عالمنا وتتشكل نزعة للموت أو على الأقل كما هو موجود بالفلم. وربما لهذا السبب "ماهيتو" كان يريد البقاء في عالم الأرواح بصحبة "كيركو" لأنه هناك يعيش كأنه ميت لا تصير قوانين الحياة عليه. 

كيف نعيش؟



يبدأ هاجس التحكم بالسقوط مع التقدم بالأحداث داخل "ماهيتو" خاصة عندما يقابل العم العظيم المتحكم في كل شيء والمحافظ على التوازن. يَعرض على "ماهيتو" أنّ يحكم من بعده وهذه هي فرصة كبيرة "لماهيتو" في أنّ يحقق هدفه بالتحكم والعيش في عالم تبقى والدته حية ولا يشوب صفو حياته مع والدته حرب تُشرب الأرض الدماء وتكتم السماء بدخان أسود. مع ذلك "ماهيتو" يرفض هذا العرض! 

هذا الرفض يشير إلى قبول أخر وهو قبول الحياة كما هي دون هاجس التحكم والسخط على الماضي أو القلق من المستقبل. هنا يتحول "ماهيتو" من نزعة الموت Thanatos  إلى حب الحياة Eros. حب الحياة بهذه الطريقة هي في ظني الرسالة التي أراد ميازاكي إيصالها للمشاهد ولنفسه. نحن لا نملك القدرة أنّ نكون مثل العم العظيم ولا يجب أنّ نتمنى أنّ نعيش في عالم زمني آخر، بل علينا أنّ نعيش لحظتنا هذه ونحن لا نعلم ماذا يحمل المستقبل ولا قادرين على التخلص من الماضي. الفلم هو رفض لهوس التحكم بالحياة ومصيرها وعلينا ببساطة العيش والسير معها ومع الظروف التي تأتي ونكون في حالة Eros حتى مع مشاعر التعاسة والحزن التي تجتاحنا بين الفينه والأخرى. 


 

 

 

 

 




تعليقات