من هو مدمر العوالم ؟

 

 


 

 

 تكمن أهمية الفلم بالنسبة لي في الاختلاف بين العالم قبل وبعد القنبلة النووية. هذه الاختلاف مشابه للشخصية الأسطورية التي ذُكرت عدة مرات  بالفلم بروميثيوس. فمثلًا بروميثيوس كان صالحا مع آلهة الأولمب، ولكن بعد تمرده بسرقة النار (المعرفة) من أجل البشر أصبح رمزاً للشر في نظر الآلهة وعُوقب على ذلك. لكن هل بروميثيوس هو رمز للشر بالنسبة للبشرية؟ لا؛ فكل هذا التقدم والنجاح في  تاريخ البشرية هو بسبب شعلة بروميثيوس الأولى . مع هذا، الفلم يجادل أنّ بروميثيوس رمز للشر بالنسبة للبشرية. 

حرق كامل للفلم!

من بداية الفلم نرى أوبنهايمر يقضي الليل بالتفكير حول هذا العالم طمعًا في فك رموزه، فهو شخص مهووس بالعلم والنظريات. وفي الصباح يتعرض للاستهزاء من معلمه الذي سخر منه أمام الطلبة، يتملكه الغضب ويقرر وضع السم في التفاحة انتقامًا من المعلم. واعتقد هذه هي الإشارة الأولى في الفلم عن خطورة الإنسان عندما يستسلم لمشاعره فلا يقوم بقرارات عقلانية، ومن خلال المعرفة بالعلم تزيد هذه الخطورة؛ لأنّ المعرفة هي وسيلة لتحقيق الغاية ،وفي هذا المشهد الغاية هي الانتقام. ولكن بالطبع موضوع التفاحة هو صغير جدًا مقارنة بصناعة قنبلة نووية بدافع الطموح والفضول البحت. أوبنهايمر هو العامل الرئيس فيما يحدث ولكنه ليس الوحيد الذي يهدد السلام . نرى الكثير من العقول اجتمعت لبناء القنبلة النووية، فكلهم شركاء في إطلاق هذا الشر على العالم. وكما قال العالِم الذي رفض العمل مع أوبنهايمر، "اليوم سوف يعاملونني كعالِم، لكن ماذا سأكون بعد القنبلة النووية؟" وبالطبع هذا لا يقلل من إجرام أوبنهايمر بأي شكل من الأشكال ولكني ذكرت هذه النقطة لارتباطها  بالفقرة التالية.



ينطلق بعدها الفلم في عرض التيارات المختلفة التي تبرر صناعة القنبلة وإطلاقها على اليابان، فمثلا هناك استخدام مفرط لمفهوم النفعية، والذي يرى أنّه يجب تحقيق الزيادة القصوى في المنفعة، حتى لو كان على حساب أرواح البشر؛ فموت ١٠٠ شخص أفضل من موت ١٠٠٠ شخص. لذلك، القنبلة ستزهق الأرواح، وستحفر ذكرى مؤلمة للشعب الياباني، ولكنها ستضمن نهاية الحرب والحفاظ على أرواح أكثر. وهكذا تم حل هذه المعضلة الأخلاقية! وبغض النظر عن النية الحقيقة لقادة الولايات المتحدة الأمريكية، يظهر صوت آخر يناشد بالعدل. يرى هذا الصوت أنّه من العدل تسريب معلومات صناعة القنبلة النووية حتى لا تهيمن أمريكا على العالم. هذا الصوت لا يحل المشكلة؛ لأنه لا يلغي فكرة بناء القنبلة النووية، بل يساهم في نشرها. هناك صوت خافت يناشد بإلغاء صناعة القنبلة ولكنه سرعان ما يختفي في الفلم. من الصعب على الإنسان التوقف عن التطور في العلم عندما يوجد احتمالات وفرص للارتقاء بالبشرية أو الحصول على نفوذ أكبر. وخلال تطوير الصاروخ النووي اُكتشف عنصر كيميائي جديد والمشروع حفز العمل على أمور جديدة مثل قنبلة الهيدروجين. 


 ربما يجب ألا نلقي اللوم على بروميثيوس، فهو أعطى سر النار للبشر، وتطورت البشرية والحضارة بفضله. البشرية قبل تضحية بروميثيوس كانت لعبة بيد الآلهة، فكانوا يعذبون البشر تارة وتارة أخرى يعطفون عليهم. أما أوبنهايمر أعطى البشر السر للدمار والقضاء على كل ما هو حي وهو يعترف بذلك عندما قال أنا مدمر العوالم. في حديث أوبنهايمر الأخير مع أينشتاين  يخبره أنّ خوفه من سلسلة الأحداث المدمرة بعد القنبلة قد تحقق والمثير للاهتمام أنّ أوبنهايمر استخدم الضمير "نحن" ولم يقل "أنا" مما يعني هو يضم أينشتاين في الدمار الذي تحقق، ولو أنّ أينشتاين لم يشارك في المشروع ولكنه كتب نظريات وأفكاراً استمد منها العلماء من أجل القنبلة النووية وأينشتاين كان قادرًا على فعل ذلك بسبب الشعلة الأولى التي سرقها بروميثيوس فأنارت عقل أينشتاين ليكتب ما كتب، والذي كتبه أينشتاين أنارَ عقل أوبنهايمر ومن أتى من بعده فهي حلقة تتراكم فيها المعرفة وتحقق الدمار في النهاية. أوبنهايمر يبدو كأنه ندم على حصول البشرية على النار (المعرفة) من الأساس فهو فقد الإيمان والثقة بالبشر كما كانت آلهة الأولمب تزدري البشر. وفي نظري تتشارك الميثولوجيا في عدم الثقة بالبشر، فمثلا في الميثولوجيا السومرية الإله "أيا" هو حليف البشر يخفف عنهم عذاب الآلهة ولكن في كل مرة يقنع "أيا" الآلهة يعود البشر لتدمير والخراب في الأرض. نفد صبر الآلهة حتى أرسلوا  الطوفان على البشر في النهاية. 


لا يكفي أنّ نلقي اللوم على المعرفة كسبب يدفع البشر نحو الدمار لأنّ الفلم يلقي الضوء أيضًا على بشاعة صناع القرار ومن لديهم النفوذ. فمثلاً في لقاء أوبنهايمر مع الرئيس الأمريكي نرى برود المشاعر وإلقاء النكات بعد رمي القنبلة على هيروشيما وكذلك وزير الحرب الذي لم يرد رمي القنبلة على كيوتو لأنه قضى شهر العسل هناك. وفي الجهة المقابلة نرى انقسام قادة اليابان نفسهم في قرار رفع راية الاستسلام أم متابعة الحرب. لذلك، حتى لو كان هنالك تطور علمي مدهش يرتقي بالحياة وجودتها لا يوجد ما يضمن قوة عادلة غير ظالمة تدير التطور العلمي. فكما كان يقول الشاعر الروسي جوزيف برودسكي:

Man is more frightening than its skeleton 

 

 


 

 

 

تعليقات