فلم إيكرو والبحث عن المعنى
في افتتاحية الفلم نرى رجلاً منكبًا على تصفح كوم من الورق على طاولته وبتعابير باردة جدًا وعين لا تغادر كومة الورق للنظر إلى الموظفين أو بدء حديث عابر مع أحدهم، ثم يُكسر هذا الصمت السائد بصوت راوي القصة الذي يعرفنا على بطل فلمنا. يرسم لنا الراوي تصوراً خاطئ نوعًا ما عن بطل القصة ومفهوم معنى الحياة ولكن هذا لغاية مهمة اعتقد كوروساوا قصدها حتى يخلق شيء من التوتر والقلق أو على الأقل الفضول حول مصير هذا الرجل البائس الذي ستنتهي حياته في غضون ٦ أشهر وربما أقل. يخبرنا الراوي بأن واتانابي لا يعيش حياة ذات معنى بسبب أنه يعمل بوظيفة مملة تجعله منشغلًا بكومة الأوراق دون معنى وبعدها تنتقل الكاميرا لمنزل واتانابي لنرى نقاشًا بين ابن واتانابي وزوجته حول مال والده وطَمعهم به. وفي الحقيقة أقدر جدًا توظيف المُخرج أكيرا كوروساوا للكاميرا وترتيب المشاهد، فمثلًا بعد تلقي واتانابي لخبر مرضه نرى استخدام مكثف للقطات البعيدة وخلو المشهد من الأصوات المحيطة مما يعطي شعور غرق واتانابي بالتفكير بالخبر وكذلك بُعده عن الحياة بكل مافيها من ملذات. وظيفة لا معنى لها وعائلة متوترة، إذا كانَ هذين الأمرين بحالة لن تساعد واتانابي
( مما يجعلهم نوعا ما بلا معنى لبطل القصة)، فما هو الشيء الذي يعطي للحياة معنى؟ وكيف سيحصل واتانابي على معنى لحياته في هذه الفترة القصيرة؟
تحتوي التدوينة على حرق لكامل الفلم
استيقاظ الوعي
أعتقد أن الراوي هو نفسه وعي واتانابي ولكن واتانابي لم يعد يستمع لوعيه الخاص وأصبح في حاجة لأناس آخرين ليعيدوا التواصل مجددا بين واتانابي ووعيه الخاص. في مقر عمل واتانابي، يمر الوقت برتابة وهدوء تام وإذا تم كسر الصمت فسيكون من أجل الغيبة والنميمة، ولكن من خلال شخصية الموظفة " تويو"، تُمثل الشخصية وعي الموظفين وبالتحديد واتانابي وبداية مهمتها في إيقاظ الوعي هو عندما تقرر إلقاء نكتة لموظفي القسم قائلةً:
" سمعت بأنك لم تأخذ إجازة من العمل قط! هل هذا بسبب أنّ الشؤون البلدية ستكون عاجزة عن العمل في غيابك؟ في الواقع لا؛ أنت لا تغيب أو تطلب إجازة حتى لا يعلم زملاء العمل بأنهم في الواقع لا يحتاجون إليك."
تبدأ بعدها نوبة ضحك "تويو" التي ترافقنا في لحظات كثيرة في الفلم، ولكن تويو هي الوحيدة التي تضحك لأنها الوحيدة التي ترى ما قلته كنكتة، أما لباقِ الموظفين كان ما قلته حقيقة تُخاطب وعيهم النائم في سُبات لفترة طويلة. وفي الواقع واتانابي يعترف لاحقًا لها بأنّ هذه النكتة كانت واقعه وهذا يعني أنّ هذه النكتة لم تكن شيئًا عابراً بل بقي واتانابي يفكر بها وربما هذه النكتة ساعدته ليجد هدفًا من عمله كمدير قسم في الشؤون البلدية لاحقًا كما نرى مع نهاية الفلم. وهذه الفكرة في تحفيز الناس للتفكير والتخاطب مع أنفسهم تتكرر كثيرًا طوال الفلم وربما هذه علامة على أهمية العامل البشري في حياة الإنسان حتى يحصل على المعنى؛ علاقة زوجين، علاقة عائلية أو علاقة صداقة. يفتقد واتانابي لهذا النوع من العلاقات ولكن خلال الفلم نبدأ نتعرف مع واتانابي على شخصيات الفلم وطبيعة علاقتهم مع واتانابي، وأغلبية هذه الشخصيات تُمثل فكراً معينًا في الحياة. على سبيل المثال، مقابلة واتانابي للمريض في المستشفى الذي يخبره حقيقة مرضه تدفع واتانابي لدخول حالة من الحزن والهلع ويبدأ بالتفكير في ماذا يصنع. وكذلك لقاء واتانابي مع الكَاتب في الحانة يدفع الكَاتب للتساؤل عن معنى الحياة بعد ما كان يكتب روايات لا معنى لها؛ فبعد مقابلته لواتانبي قد عرف أنّ روعة سوء الحظ تكمن في أنه يساعد المرء بمعرفة الحقيقة. فمثلًا مع تشخيص واتانابي بالسرطان استطاع واتانابي أنّ يعيد حساباته والتفكير بمعنى حياته.
استيقاظ وعي الإنسان أمر لا يكفي، لأن ببساطة استيقاظ الوعي قد يدفع الإنسان لفعل الخطأ أو عدم فعل أي شيء. فمثلًا، الكاتب في الحانة تغيّر تفكيره وأصبح يرى الطمع كفضيلة ومن بعدها نرى جزئية اللهو وشرب الخمر وتسكع واتانابي والكاتب ولكن بالطبع واتانابي يكتشف أنه ليس هذا معنى الحياة. بالعودة لفكرة أنّ الإنسان قد يستيقظ وعيه ولكن لا يفعل شيئًا ليغير حياته، هذا الأمر تُجسده مجموعة من الشخصيات في الفلم. فمثلًا في مشهد جنازة واتانابي نرى موظفي قسمه وتأثرهم بموته ومعاهدة بعضهم في التحسين كما فعل واتانابي ولكن كل هذا الكلام ووعيهم بالذي حصل، لم يُترجم لفعل ونرى أنّ وتيرة العمل بعد موت واتانابي عادت كما كانت بالسابق دون معنى. هنا تأتي المرحلة الثانية في البحث عن المعنى... الإرادة.
إرادة الحياة
بعد ما يقرر واتانابي قضاء الوقت المتبقي لديه بإنفاق كل ما لديه من مال على الخمور والطعام والنساء وغيره من الأمور الجسدية أو المادية نجد أن واتانابي لم يشعر فعلًا بالسعادة لأنّ جل هذه الأمور لحظية. مشهد الحانة مع الكَاتب يثبت هذا الكلام؛ واتانابي يخبره بأنه لم يقم أبدًا بشراء الخمر من ماله الخاص وبحكم أنه على وشك الموت، يقرر صرف ماله بالشراب ولكنه يكتشف بأن شرب الخمر لم يجعله سعيدًا وهنا يمكن أن نقول بأن الخمر هو رمز للأمور المادية التي من الممكن الحصول عليها لتساعدنا في نسيان آلام الحياة.
كون الحياة بين الملذات فشلت في جعل واتانابي سعيدًا، ينقل نظره لأمر آخر وهو قضاء وقته مع تويو التي استقالت من وظيفتها في الشؤون البلدية للعمل في مصنع والدافع هو أنها تطمح للعمل في مكان ممتع. واتانابي يشغله الفضول أكثر ليعرف السر خلف سعادة تويو على الرغم من حالة الفقر التي تعيشها الفقر ولم يقتنع بجوابها بأن كل ما تقوم به هو العمل والأكل. واتانابي هنا في حالة بائسة يريد من يدله على فعل معين يجعله سعيدًا، ولكن لم يخطر على باله أبدًا بأن السعادة الحقيقية، في نظر المخرج كوروساوا على الأقل، تكمن في الإرادة وليس بالفعل نفسه. اختيار كوروساوا لشخصية بسيطة وعادية مثل تويو لتجسيد هذه الفكرة يعود إلى حقيقة إنّ الإرادة هي بيد كل فرد، ولا يهم تعليمه أو طبقته الاجتماعية. فمثلًا، تويو تركت وظيفة أفضل في نظر المجتمع لتعمل في وظيفة أقل منها بكثير ولكن هي لم تدع هذه العوامل بالتأثير فيها واعتمدت على إرادتها في البحث عن السعادة. لذلك، الذي يجعل الحياة سعيدة بحق هو أنّ يكون لديك الإرادة لفعل ما تريد مهما بلغ من البساطة ومهما صغر حجم هذا الهدف. في الواقع، قد يكون لديك وظيفة مرموقة مثل شخصية العمدة بالفلم ولكن ما فائدة هذه الوظيفة إنّ لم يكن لديه إرادة لتحسين حالة المجتمع؟ والمفارقة أنّ واتانابي بمسمى وظيفي أقل ومكانة مجتمعية أقل، خدم مجتمعه بصورة أفضل من العمدة.
تذكرني شخصية العمدة وكذلك شخصيات موظفي الشؤون البلدية الذين تحدثنا عنهم في الفقرة الثانية بكلام الكاتب البريطاني أوسكار وايلد:
".To live is the rarest thing in the world. Most people just exist"
واعتقد الذي أراد أن يشير إليه وايلد هنا، هو أنّ الوجود لوحده أسهل بكثير من العيش لغاية أو هدف معين، لذلك الشخصيات التي تحدثنا عنها لم يجدوا سبب يقنعهم من الخروج من حالة "الوجود" والدخول في حالة " العيش". وحتى واتانابي هو لا يختلف عنهم كثيرًا ولكن لقد وجد دافع مُقلق وقاتل يدعى السرطان. وبالطبع نحن لا نحتاج لنصل لهذه الدرجة حتى ندخل في حالة "العيش" ولن نتمنى المرض لدخول هذه الحالة، ولكن اعتقد مقصد المُخرج يكمن في فكره أنّه يجب علينا نحاول أنّ ندخل في حالة العيش هذه قبل أنّ يأتي المرض (الموت) طارقًا للباب ونغادر الحياة بدون حسرة أو ندم على ضياعها دون فائدة.
تعليقات
إرسال تعليق