المعذّبون في الأرض

 

 


حلّق الإنسان بالطائرة الحبيسة في سماء الأرض وطمع بعدها للفضاء، فأطلقت الصواريخ كالسهم الثاقب يخترق السماء الزرقاء مسرعًا للقمر. ثُقبت جماجم الآلف من الناس في العصور الوسطى ظننًا منهم أن الأرواح الشريرة ستخرج هكذا ويرتاح المريض من علته النفسية.  ولحسن الحظ قطعَ الطب شوطًا كبيراً ونجى الإنسان على مر ِالعصور من الجهل بالطب لنصل إلى ما نحن عليه اليوم. لكن مهمّا أخُذت عقولنا ورميت في عواصف المعرفة ودهاليز المكتبات وتدرعنا بالتطور، سيبقى هنالك قوة تجعلك في كامل الضعف وهي بين أحشائك ولا يمكن إسكاتها إلا إذا انهال عليها الطعام... إنها المعدة. 

 

كانت الشمس ساطعة ترسل لهيبها الحارق وتحرق معها صبري، فأستودع كامل قوتي لقدمي حتى أصل للسيارة لأحتمي من الشمس. بدأت معدتي تصدر صوتها الغاضب تطالب بالطعام ولا تحفل بالمسافة بين عملي وأقرب مطعم. وصلت لهذا المطعم الذي لا أعرف عنه شيئًا أمد يدي لجيب الثوب ولا أجد المحفظة، والجوال قرر أنّ يدخل بسباته لن يوقظه إلا وصول الكهرباء إليه وهذه ليست المرة الأولى التي تخذلني فيها التقنية. عدت للمنزل على عجل وأخذت ما وجدت من نقود وملئت بطني وانتهت القصة.  

 

تلك الحالة التي يشعر فيها الإنسان أنّ الجسم لن يعود للعمل من جديد إنّ لم يمتلئ بالطاقة ليست بالحدث الجديد وحضور الطعام عندما نشتهي مهمة سهلة. لذلك لا نرى الجوع بصورته الكاملة لأنّنا قادرين على أن نقضي عليه بلحظات معدودة. لكن هل هذا كل شيء عن الجوع؟ وهل يجب أنّ يقتصر تفكيرنا بهذا الشكل؟ ماذا عن رب المنزل الذي عليه أنّ يفكر بإسكات أكثر من معده جائعة أو الأب القلق الذي يخاف أنّ يعود في المساء خائبًا للعيون المرهقة والبطون الجائعة. 

 

يروي لنا الأديب  طه حسين  في كتابه (المعذّبون في الأرض) قصة صبي مجهول الاسم وفتى يدعى صالح والفرق الوحيد بينهم هو أنّ الصبي لا يحتاج أنّ يقلق عن هل يوجد ما يأكله في المساء أمّ لا لأنه أصبح بالنسبة له أمر طبيعي ووافر مثل الأكسجين بالهواء لن ينقطع. وصالح من ناحية أخرى عليه أنّ يبذل قصار جهده حتى يجد لقمة المساء جاهزة على طاولة الطعام. فينطلق يستكشف القرية دون توقف حتى ترصد عيناه البيت العامر بأصوات الضيوف ورائحة الطعام الزكية.  يبدأ بعدها بتنفيذ المهمة فيأخذ زهرة من الحقل ويذهب بها للصبي بعد صلاة العشاء داعيًا من الله أنّ يدعوه هذا الصبي المجهول للأكل من هذا الطعام الوفير للضيّف الكريم. يمزق الصبي الخارطة التي رسمها صالح الجائع؛ أخذ الصبي الوردة وشكر صالح ومن ثم أغلق الباب. شعر صالح وكأن صوت أغلاق باب المنزل يوخز معدته الغاضبة ليخبرها أنّها لا يوجد لها نصيب من الطعام. عاد صالح مثقل الخطى ويتمنى أنّ تطول المسافة ويبعد منزله وأخوته أكثر فأكثر وتتقلص مسافة البحث عن الطعام. فيا لها من غبطة حينما ألتفت ووجد الصبي يركض نحوه حتى يدعوه لأخذ بعض الطعام لعائلته. وهكذا انتهت قصة صالح لهذا المساء ولكنها ستعود بلا شك بالغد. 

 

لكن لماذا عاد الصبي إذ أنه لم يشعر بمشاعر صالح من البداية؟ كانت الأم الحنون هي إنارة الطريق المرشدة لابنها الذي ضاع في ظلمة الطريق. وصالح في القصة بالنسبة لحسين طه هو البؤس والفقر الذي قد نكون أعتدنا على رؤيته حتى غدى لا وجود له والصبي يمثل كل من لا يحتاج أن يقلق هل يوجد ما يأكله في المساء أمّ لا وربما يصل بعض من أصحاب المال والسلطة للدرجة التي يصبح فيها صالح خفيًا لا وجود له فيطؤون عليه بأقدامهم. وكلنا قد نعيش شيء من حال صالح وليس بالضرورة الفقر وتارة أخرى قد نعيش هذا الصبي ولكن في كل الحالات علينا أنّ نلقي على بعضنا ظلال الرحمة والسلام متى ما شدت حرارة الشمس على صالح حتى لا يختفي ويبقى معنا. 

 

يختم طه حسين  كتابه برسالة أخيره لكل من هو معذب بالأرض ويقول،" المقهورون كثر والضعفاء مِلأى العين، وعين القارئ تكاد تدمع والقلب يعلم أنه لم يزل بيننا أشباه صالح، ممن يرجو من الدنيا التفاتة حانية... فلا عزاء للمترفين إنّ لم يجودوا وينفقوا مما أتُوا وبئس الخلف لخير سلف إن لم يكن التضامن عُرفهم والنجدة عادتهم،،، وعزائي للمعذبين في الأرض بأن لهم ربُّ رحيم."

 

 

في الختام...

 

هذه التدوينة المتواضعة لم أكتبها للحكم على أحد ولا أطلب من أحد أنّ يضع حدًا للفقر أو الجوع لأننّا ببساطة لا نستطيع فعل ذلك، ولكن ما أطلبه هو أنّ نحاول في جعل الشعور حاضرًا فنعمل ونتعاون بقدر ما نقدر ونزيد من الحمد والشكر على كل نعمة صغيرة وكبيرة، قال تعالى( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾.


 هذه التدوينة هي تذكير مثل تذكير شهر رمضان الفضيل أنّ مهما علت منزلتك عن غيرك في الدنيا ، بطوننا واحده.. فعطف وتصدق. 

 

دمتم بخير وصحة وعافية. 

 

تعليقات