أين جودوت؟

 

 

 

 

رجلان بملابس رثة وتجاعيد بؤس وسقم متشكلة على وجهيهما ويجلسان على ما بالكاد يسمى كرسي؛ كان كرسي متسخًا بحق لدرجة تجعلك تشعر أنه لو تعاون عليه مئات الناس لتنظيفه لن يزول أي سواد من هذا الكرسي. أعود للنظر في الرجلين ولا أعرف كيف لهمَ أنّ يتسمران على هذا الكرسي المُحاط بأكياس القمامة وحوله كل شيء قد يتخلى عنه إنسان، صورة لحبيبٍ أصبح دفين الماضي، دمى غادرتها الحياة لحظة ما بَعُدت ضحكات الأطفال وبيوتًا كانت ديارًا أصبحت خرابًا يسكنه بقايا حياه وصمت  كصمت القبور. 

 

اقتربت منهما قليلًا لعلهم يدلوني على ما يستحق المكوث هنا في هذه الخرابة لأنه لا يوجد تفسيرًا وسببًا يجعل أي إنسان يعذب نفسه في الجلوس في هذا المكان الخانق الذي يمتّص كل بواعث الحياة وألوانها ليضمها لمجموعته الخاصة في خرابته السوداء. 

 

-       مرحبًا، هلّ لي بسؤالكما ماذا تفعلان هنا؟

-       نحن ننتظر. 

-       تنتظران في هذه الخرابة؟

-       نعم، ننتظر جودوت. 

-       من هو جودوت ومتى سيأتي؟

-       لا نعلم، ولكننا ننتظر هنا كل يوم حتى يأتي. 

 

بدأت أقلب هذه الفكرة في رأسي، فكرة الانتظار الذي لن ينتهي بميعاد ولا مكافاءة، فحزنت على الرجلين ورحلت وكنت أظن أنّ هذه الفكرة لن تعود لتشغل فكري الهادئ. ولكنّ سرعان ما عادت تلك الفكرة متسللةً من أسفل قدميّ حتى غطت جسدي كله وأصبحت حبيسًا لها. كنتُ في مرحلة ما من حياتي في الحالة التي يعاني منها الرجلين ولكن "الجودوت" الذي أنتظره كان مختلفًا بالنسبةِ لي. فعقب تخرجي بشهور كانت الوظيفة هي الهاجس الشاغل من طلوع الشمس حتى غروبها ولا تنسَ الضغط المصاحب لك أين ما حطت قدمك في جلسات الأصدقاء والعائلة. فبدأت رحلة الانتظار أو ربما يجب أن نسمي هذه الحالة متلازمة وهم الانتظار. جزء كبير من الروتين اليومي كان بحوزة الانتظار ... انتظار أيميل من شركة ما، وانتظار المكالمة التي ستعزف خبر القبول.

 

 

 

 

لكن لم يتغير الحال وكيف سيتغير وأنا لم اغيّر من نفسي شيئًا؟ 

أنّ القرآن الكريم زاخر بالآيات الكريمة والتوجيهات الدينية والدنيوية التي تعيد من ضل عن الصراط المستقيم وتبدّدت الهموم وتغرد بانشراح الصدر، فالحمد لله على هذه النعمة وكانت هي من أرشدتني خلال رحلتي في البحث عن عمل.  

 

-       (إنّ لَكَ فِي النَّهار سَبحًا طَويلًا)

معاش الإنسان يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التام والبحث عن منابع العمل وإشغال النفس والجوارح بأي شكل من الأشكال. هذه الآية العظيمة تلخص جزء كبير من الحل لهذا الانتظار الفارغ، بدأت استيقظ مع اشراقه النهار الأول فيشرق به قلبي. جعلت من هذه الآية نهج في حياتي وصنعت من التقديم على الوظائف والانتباه للهاتف هي وظيفة في حد ذاتها. لكن الكم الهائل من رسائل الرفض أو عدم الرد لم ينتهي، فتسلل الإحباط لقلبي والكسل لجسدي. وعدت لكتاب الله عز وجل مره أخرى وسأعود له طالما حييّت.  

 

-       (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴿39﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ﴿40﴾ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى)

 تعود هذه الآية للأصل وأنّ كسب الإنسان يرد إلى فعل السعي في الوصول إلى الغاية البعيدة. هذه الآية من سورة النجم كانت الدافع الجديد للعمل مره أخرى (حتى دون وجود عمل فعلي). بدأت اتبنى نظرية "قط وجهك"؛ التقديم وعرض مهاراتك دون أنّ يطلب منك ذلك والنتيجة كانت جيدة،  كان هنالك رده فعل لهذا السلوك وسعدت وقتها بهذا التقدم وكسب خبرة متواضعة. 

 

 

-       عمر الفاروق رضي الله عنه والرِجال الثلاثة: 

"فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فَسَأَلَ أَحَدَهُمْ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟

فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ يَأْتِينِي بِرِزْقِي كَيْفَ شَاءَ.

فَتَرَكَهُ وَمَضَى إلَى الثَّانِي، فَسَأَلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ أَخًا يَحْتَطِبُ فِي الْجَبَلِ فَيَبِيعُ مَا يَحْتَطِبُهُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَأْتِيه بِكِفَايَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَخُوك أَعْبَدُ مِنْك.

ثُمَّ أَتَى الثَّالِثَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَرَوْنِي، فَيَأْتُونِي بِكِفَايَتِي، فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ لَهُ اُخْرُجْ إلَى السُّوقِ، أَوْ كَمَا قَالَ.

 

يأتي هذا الفعل النابع من تعاليم سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام لتأكيد على أهمية السعي نحو الرزق والأخذ بالأسباب وأن تعتاد النفس على اليد العليا لا السفلى. والدعاء طلبًا لرزق والاكثار من الصلاة هي أفعال حميدة وأجرها عند الله ولكن يجب أنّ تكن مقرونة بالفعل، كما جاء في حديث عنْ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أيها النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ وأجْمِلُوا في الطَّلبِ، فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتَّى تستوفيَ رزقَها وإنْ أبطأَ عنها"

 

(وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) 

أنّ فكرة البعد عن المنزل كانت تؤرقني كثيرًا مهما كانت المسافة قريبة وبالتأكيد هذا الخوف من البعد لنّ يكون ذا فائدة وسأندم عليه أنّ لم أخرج من منطقة الراحة تلك. في أحد الجلسات العصرية القصيرة مع جدي الراحل رحمه الله عليه وقبل وفاته بأسبوع، بنى جلسة متواضعة تطّل على أشجار النخيل المعمرة وشتى أنواع الأشجار دائمة الخضرة وكأن الربيع لم يغادر المزرعة وهذا الربيع كان جدي العزيز وبعد ما رحل، رحل معه الربيع وحل الشتاء البارد.  تلك الفترة كانت بداية جدي مع مرض الزهايمر سارق الذاكرة والذكريات، ومن أعراض هذا المرض هو تكرار بعض الجمل والأسئلة وكان أكثر ما يردده لي عندما يحدثني عن الوظيفة، "يا ولدي، بلدك ماهو المكان الي تنولد فيه، البلد المكان الي يجي رزقك فيه"، اليوم وأنا بعيد عن منزلي وعائلتي يعود إلي كثيرًا كلام جدي ويطمئن قلبي وأشعر أكثر بالراحة بالمكان الذي أعمل فيه الآن، لا لصدق المقولة، ولكن لأنها كانت من نابعة بكل حب من جدي الغالي وإمانهُ بي، وتأتي هذه الآية الكريمة لتزيد القلب راحة وتدب فيه العزم في شد الرحال أين ما تأخذك الوظيفة، فمعها ليس المادة والاستقرار المالي فقط، بل شغل النفس بما يُرضي الله. 

 

 

 

في الختام...

 كل واحد منا سيكون له نصيّب من الانتظار ولكن لا تجعل تحقيق أحلامك وأهدافك رهينة للانتظار وحده بل أجعل هذا الانتظار مقرونًا بالسعي والأمل أن يوم من الأيام سيأتي التغير ليس لانتظارك فحسب بلّ لأنك ثابرت وعملت ولن يعرف القمة من لم يكنّ في القاع. 

تعليقات